فصل: فَصْل في الحث على حفظ الوقت وصرفه فيما ينفع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم، أم هم في الأمر متهاونون، ولأي شيء يجتمعون، ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعوظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه، وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحياء من فاطر الأرض والسماوات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنًا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الآذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السماوات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الذين بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التلفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شؤون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكورة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب، وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والحالة هذه مخيفة لذوي العقول، والفهوم، لاسيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبدٍ وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}». وقال قتادة: ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ** فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّين

وقال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة.
فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين عمله قرب الناهي وهو الله.
تَوَارَى بِجِدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى ** وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لاشَكَّ تَنْظُرُ

فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان.
حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأفٍ للذنوب ما أقبح آثارهًا وأسوء أخبارها انتهى كلامه.
أَمَا آنَ الرُّجُوعُ إِلَى الصَّفُوحِ ** عَن الزَّلاتِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ

تُبَادِرُهُ بِقُبْحِ الْفِعْلِ سِرًّا ** وَلا تَخْشَاهُ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ

هَدَاكَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ** وَأَنْتَ ضَلَلْتَ عَنْ هَذَا الصَّحِيحِ

وَفِي دُنْيَاكَ تُؤثرُ كُلَّ فَانٍ ** عَنِ الْبَاقِي الْمُعَزَّزِ وَالْمَلِيحِ

آخر:
يَا طَالِبَ الطِّبِّ مِنْ دَاءِ تَخَوَّفَهُ ** إِنَّ الطَّبيبَ الَّذِي أَبْلاكَ بِالدَّاءِ

هُوَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُرْجَى لِعَافِيَةٍ ** لا مَنْ يُذِيبُ لَكَ التِّرْيَاقَ بِالْمَاء

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنًا لإغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح.
والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

.فَصْل في الحث على حفظ الوقت وصرفه فيما ينفع:

الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ وصرفه فيما فيه النفع من صلاة وزكاة وصيام وحج وتسبيح وتهليل وتكبير، وسائر أنواع القربات لله، التي هي عمارة بيته الذي سيسكنه طويلا.
ومما يتأكد إجتنابه والتحذير منه في رمضان وغيره الجلوس في المجالس التي هي كفيلة بالخسران والندامة، كمجالس آلات اللهو من الاسطوانات والمذياع وأعظم من ذلك السينما والتلفزيون والفديو والكرة.
أما المذياع فلأنه آلة لهو محرم، لدخوله في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية وقد فسر لهو الحديث، كثير من السلف- من الصحابة والتابعين- بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي ويشغل عن الخير، فإن فسرت هذه الآية بالغناء والمزامير فهو رأس الملاهي كلها، وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي ويشغل عن الخير فهو الجامع لذلك، وفوق ذلك الوصف، ومن المعلوم لدى كل ذي عقل سليم منصف أن الراديو المقصود الأصلي منه اللهو والغناء، والاشغال عن طاعة الله.
وفي المذياع يجمع بين كلام الله والغناء، وهذا من أعظم التنقص والامتهان لكتاب الله، ومن جهة أخرى فهو استهزاء واستخفاف بكتاب الله وقد قال جل وعلا وتقدس: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} وعدم تنزيه كتاب الله عن مزامير الشيطان من أعظم الظلم وأقبحه، وأجور الجور وأشنعه وربما أغلق المذاع كراهة للقرآن وهذا ردة قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان: وأما سماعه أي الغناء، من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادًا للدين.
قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعهم فهو سفيه، ترد شهادته، وغلظ القول فيه، وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثًا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. قلت: فكيف لو رأى الراديو، وما يأتي من الخلاعة والغناء، والمنكرات العظيمة، التي أنبتت النفاق، ومكنته من قلوب الأولاد والشباب والكهول والشيوخ، إلا من عصمه الله، وكذلك لو رأى التلفزيون أو السينما أو المجلات الخليعة، وما في ذلك من المفاسد والصور والمنكرات والشرور والخلاعات فيالله للمسلمين.
وقال: كان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق.
قال ابن القيم: وأما تسميته رُقَيَّةَ الزنا: أي الغناء فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق فليس في رُقْيه الزنا أنجع منه، وهذه التسميه معروفة عن الفضيل بن عياض، قال إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم ولابد فاعلون فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا. قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جن الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني. فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعني ابنته فإن كففته وإلا خرجت عنك، ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم قال: اخصوهم. فقال عمر بن عبد العزيز: هذا مثلة فلا يحل فخلى سبيلهم.
فإذا كان الشاعر المفتوق اللسان، الذي هابت العرب هجاءه، خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره، ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب.
ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًا، فإذا كان الصوت بالغناء كان انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حاديه: «يا أنجشة رويدك رفقًا بالقوارير». يعني النساء، فإذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابه والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء حبلت من هذا الغناء، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنىً وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد وحلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف من أشجانٍ وأحزانٍ، فلم يجد بدًا من قبول تلك الهدايا، وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من الآم منتظره، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة.
قال: وأما تسميته منبت النفاق فعن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع، والذكر ينبت الأيمان في القلب، كما ينبت الماء الزرع، فإن قيل: فما وجه انباته للنفاق من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرق والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطب الناس.
وقال: فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلوب بالنفاق ونباته كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعَا لبان وفي تهييجها علي القبائح كفرسَى رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وحديثه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ.
وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخييل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة، فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الأيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء ومال إليه، نقص عقله، وقل حياؤه وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب. ولله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من النونية في سماع أهل الجنة.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسَلُ رَبُّنَا ** رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ

فَتَثِيرُ أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ ** إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ

يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي ** بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ

أَوَ مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهُمْ فِيهَا غِنَا ** ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ ** مُلِئَتْ بِهِ الأَذَانِ بِالإِحْسَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ ** مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ ** لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ

وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ ** ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ

مَا ظَنَّ سَامِعَهُ بِصَوْتٍ أَطْيَبَ الْـ ** أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ

نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيِّرَا ** تٌ كَامِلاتٌ الْحُسْنِ وَالإِحْسَان

لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَالَنَا ** سَخَطٌ وَلا ضَعَنٌ مِنَ الأَضْعَانِ

طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو ** بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُنَا لَفْظَانِ

نَزِهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ ** ذَيَّاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ

لا تُؤْثِر الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ ** رَمَ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحِرْمَانِ

إِنَّ اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِلِ الْـ ** أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِن النُّقْصَانِ

وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهم فِي الْقَلْبِ وَالْـ ** إِيمَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ

وَاللهِ مَا أَنْفَكَ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ ** أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ

فَالْقَلْبُ بَيْتُ اللهِ جَلَّ جَلاله ** حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ

فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ ** عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ

حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا ** فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ

ثَقُلُ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُوا لَمَّا رَأَوْا ** تَقْيِيدَهُ بِشَرَائِعِ الإِيمَان

وَاللَّهُوُ خَفَّ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَأَوْا ** مَا فِيهِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَلْحَانِ

قُوتُ النُّفُوسِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ قُوتُ ** الْقَلْبِ أَنَّى يَسْتَوِي الْقُوتَانِ

وَلِذَا تَرَاهُ حَظُّ ذِي النُّقْصَانِ كَالْـ ** جُهَّالِ وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ

وَأَلذُهُمْ فِيهِ أَقَلُّهُمْ مِنْ الْـ ** مَقْلِ الصَّحِيحِ فَسَلْ أَخَا الْعُرْفَانِ

يَا لَذَّةَ الْفُسَّاقِ لَسْتَ كَلَذَّةِ الْـ ** أَبْرَارِ فِي عَقْلٍ وَلا قُرْآن

نسأل الله أن يلهمنَا رشدنَا ويبصرنَا بعيوب أنفسنَا ويشغلنا بإصلاحها ويوفقنا لقبول نصح الناصح وإرشاد المرشد. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

.موعظة:

عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله، ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهة باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب والآم والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام أنت تطلب الجنة يا هذا ولا نفيس أنفس منها لإنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعي فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعي لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها علي بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجري الله العادة أن من خاف شيئا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر، وكل الفرار، ويذهب هدوئه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارا لا اختيارا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته وصفوها جهنم يا هذا اعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار.
الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو... كان إيمانك قوي في قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات.
وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ ** وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ

آخر:
تَذَكَّرْتُ أَيَّامِي وَمَا كَانَ فِي الصَّبَا ** مِنْ الذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْجَفَا

وَكَيْفَ قَطَعْتُ الْعُمْرَ سَهْوًا وَغَفْلَةً ** فَأَسْكَبْتُ دَمْعِي حَسْرَةً وَتَلَهُّفَا

وَنَادَيْتُ مَنْ لا يَعْلَمُ السِّرَّ غَيْرُهُ ** وَمِنْ وَعْدِ الْغُفْرَانِ مَنْ كَانَ قَدْ جَفَا

وَتَابَ إليه مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ ** فَجَادَ عَلَيْهِ بِالْجَمِيلِ تَعَطُّفَا

أَغِثْنِي إِلَهِي وَاعْفُ عَنِّي فَإِنَّنِي ** أَتَيْتُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَلَهِّفَا

وَخُذْ بِيَدِي مِنْ ظُلْمَةِ الذَّنْبِ سَيِّدِي ** وَجُدْ لِي بِمَا أَرْجُوهُ مِنْكَ تَلَطُّفَا

اللهم وفقنا لاتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.